استطلاع لـ “ملفات سوريا”: علويون يسردون خسارتهم في سوريا
جوليا العبد (دمشق)
منذ تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة عام 1970 بعد انقلاب عسكري قام به من موقعه كوزير دفاع، بدأت رحلة العلويين في الحياة السياسية في سوريا بالظهور إلى العلن، وبشكل عملي، من خلال استلامهم مفاصل الدولة الحساسة، أهمها مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية.
لم يكتف العلويون بالمشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية السورية، بل تطلعوا وبعد انتهاء الانتداب الفرنسي لترسيخ حضورهم في مناح أكثر حساسية بعد سنوات العزلة في المحيط السني السوري والإقليمي، وكانت مؤسسة الجيش السوري الطريق الذي سعوا باتجاهه منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بترتيبات حافظ الأسد، الذي أقحم هذه الطائفة في الحكم، مستندا على ولاءات صنعها على مدار عقود، مع انتفاع فئة قليلة جدا من العلويين من السلطة، فيما المعاناة العلوية على المستوى الاجتماعي ظلت قائمة حتى الآن.
الارتهان للسلطة
“ملفات سوريا” استطلعت العديد من آراء العلويين في سوريا، حول العلاقة مع السلطة، وكيف هو حال هذه الطائفة التي باتت في كثير من الأحيان مهددة بحكم علاقتها مع الأسدين الأب والابن، خصوصا بشار الذي زج بهم في حرب طويلة منذ تسع سنوات، أكلت خيرة شبابهم.
ويقول “أبو علي” من أهالي مدينة دريكيش إنه مازال منذ عام 1990 وحتى اليوم يشحن زيت الزيتون وبعض من محاصيل أرضه الزراعية إلى ضابط رفيع المستوى في الجيش السوري، شكراً على توظيف ابنه في مؤسسة حكومية، فهذا الأمر أصبح عرفاً اجتماعياً، بسبب قدرة الضباط العلويين على الحصول على وظائف وخدمات عبر المحسوبيات والواسطات، التي يقدمونها لأقاربهم ومعارفهم لقاء مقابل مادي.
أما عماد وهو شاب حصل على البكالوريا في إحدى مدارس قرية الجديدة في ريف القرداحة، (مسقط رأس حافظ الأسد)، وقدم إلى دمشق ليكمل تعليمه الجامعي يقول: بمجرد تقديمي على الجامعة وقبولي بها، تحدث أبي مع ابن أخيه الضابط في الحرس الجمهوري؛ ليجد لي عملا لتخفيف مصاريف المعيشة عليه، وبالفعل حصلت على عقد عمل مؤقت في وزارة الصحة، كما أمّن لي غرفة أعيش فيها بالقرب من عملي، خلال شهر تعرفت على عائلة ابن عمي ومعيشتهم المترفة في دمشق، تفاجأت بالفروقات المعيشية، فقسط المدرسة لابنه الصغير يعادل ما تنتجه عائلة الضابط في الضيعة، وتعيش منه خلال سنة كاملة.
الحل في الجيش
يشكِّل التطوع في الجيش السوري والأجهزة الأمنية، وجهة غالبية الشباب العلويين، فهي من جهة وظيفة ذات مرتب، وسلطة ونفوذ من جهة أخرى، وإمكانية الترفع فيها وصولاً للمراكز القيادية أمر بسيط بحكم الولاء الطائفي، فقد ذكر مركز عمران للدراسات الاستراتيجية في ورقة بحثية أصدرت مطلع العام الجاري بعنوان “مراكز القوة في جيش النظام 2020″ أن سيطرة العلويين بلغت 100% على أهم 40 منصباً قيادياً في الجيش السوري.
تطوع أحمد في قوى الأمن الداخلي، كما تطوع من قبله أخواه وأبوه سابقاً في المؤسسة العسكرية، وقال أحمد وهو من ريف حمص لـ”ملفات سوريا”: ليست عائلتي فقط، وإنما ضيعتنا كاملة يتجه فيها الشباب للتطوع في الجيش والداخلية وفروع الأمن، ويعتبر الأمر إرثا عائليا، ذلك أن التطوع بالنسبة لي يؤمن وظيفة دون مؤهلات علمية عالية أو إمكانيات مهنية، ورغم حصول أخي الكبير على شهادة في الطب البشري، إلا أن التطوع في وزارة الدفاع كان أمراً مفروغاً منه عند عائلتي.
وقد استفاد نظام حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار من هذا الأمر، في عدة حوادث تاريخية، فأي معارضة لنظام الأسد تستدعي السيطرة على الجيش السوري والأجهزة الأمنية، وكون غالبية الجنود والضباط من العلويين، فإنه يستثمر في استهداف هذه المؤسسات؛ ليشيع فتنة طائفية، فمنذ حادثة المدفعية الشهيرة في حلب، وحتى معارك النظام ضد معارضيه اليوم، وبحسب رأي باحث سوري من الطائفة نفسها: “تجعل العلويين يشعرون بشكل دائم بأنهم طرف مستهدف بذاته، وبما أن الطائفة عانت خلال قرون من العزلة الاجتماعية، ومن مخاوف قتلهم ونبذهم، فهم يدينون لنظام الأسدين ويؤيدونه، ويموتون في سبيل ترسيخ بقائه، فبقاء هذا النظام يعني بقاءهم في الوجود السوري، ولو على حساب دمائهم، وحقوقهم المعيشية البديهية، واستمرار النظام الحالي يعني استمرارهم”.
لذلك يرى سلمان الذي ينحدر من القرداحة مسقط رأس حافظ الأسد، وهو أحد الشباب الذين يعملون في مؤسسة إعلامية رسمية، أن كل المتنفذين في السلطة السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية من أبناء هذه المنطقة، لا يرتبطون بالمنطقة التي يتنمون لها، وخدماتهم لا تقتصر إلا على توظيف أبناء مناطقهم في المدن، ولا يتذكرون الضيعة إلا من خلال بنائهم لمنزل أو فيلا فاخرة الطراز، للتأكيد على سطوتهم، وما تعيشه القرى العلوية من بؤس وقلة في الخدمات وانفصال عن العالم المتقدم، يصب في زيادة نفوذهم، من خلال استغلال الحاجة التي يعاني منها أهالي هذه القرى، وبالتالي تقديم أنفسهم للمؤسسات العسكرية طوعاً، رغبةً منهم في تحسين أحوالهم المعيشية بحسب رأيه، ويضيف أن حكم حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الذي كان يطرح على أنه حكم يقف وراءه كيان طائفي، تحول منذ سنوات عديدة إلى حكم عائلة تستغل فقر وتجويع الطائفة لحمايته، ليس إلا على حد قوله.
ضباط يرفضون استثمار أموالهم
يرى العديد من شباب القرى والمدن التي يتمركز فيها المواطنون من الطائفة العلوية كما أخبرنا أحد الشباب من مدينة طرطوس: أنه عوضا عن تكديس عشرات المجندين والمتطوعين في وظائف في دمشق، كان يجب على الضباط وأصحاب رؤوس الأموا،ل أن يستثمروا أموالهم التي يحصدونها في مشاريع تنموية في مناطقهم، تؤمن وظائف وفرص عمل متنوعة لأبناء هذه المناطق، وتحسين معيشتهم، وهم بالقرب من أهلهم الكبار في السن، وبهذا تستطيع هذه القرى والمدن أن تعتمد على العديد من المشاريع السياحية والاقتصادية، التي ستعود على أهلهم بوضع معيشي واقتصادي أفضل، خاصة أن “مناطقنا” تتمتع بطبيعة متنوعة من جبل وسهل وبحر.
لهذا بين دكتور وباحث يعمل في جامعة تشرين لملفات سوريا رأيه حول هذا الموضوع، مشيراً إلى أن التجويع والتردي في الأمور الخدمية، في قطاعات الحياة الأساسية (كالتعليم والصحة)، والبنية التحتية المنهارة، وكل ما يتعلق بفقر هذه المناطق للمشاريع التنموية، هي سياسة ومنهجية تتعامل فيها الدولة مع هذه المناطق، والزائر لهذه القرى يعتقد أنه سائح في العصور المظلمة، وكأن هذه المناطق خارج الزمان والمكان، بينما يرى أحد الباحثين الشباب أن هذا الأمر لا يقتصر على أبناء هذه القرى فحسب، بل هي سياسة الدولة مع كافة الأرياف بغض النظر عن انتمائها الطائفي، لكن اللافت في الموضوع بحسب رأيه أن القرية أو البلدة التي يتفاخر عنصر أمن مثلاً بانتمائه لها، يرتبط بانتماء أحد القادة أو المتنفذين لها، وليس من شعوره بالانتماء للأرض.
أظهرت الحرائق التي شهدتها المناطق الساحلية، وعلى الأخص القرى التي ينتمي سكانها وأصحاب أراضيها إلى الغالبية العلوية حيزاً كبيراً من المأساة الإنسانية التي يعيشها أهالي هذه القرى في الوقت الراهن، فانقطاع الخدمات الذي أوضحته أسباب انتشار الحرائق ونتائجها، أعاد مظهر البؤس والفقر الذي عانى منه سكان هذه المناطق عبر التاريخ، لكن دون أن يكون هناك قطيعة مفروضة كما في الماضي، بل بالعكس مع تواجد بعض الأشخاص من هذه المناطق على رأس السلطة ورؤوس الأموال، ما أثار التساؤلات حول ما الذي فعله أو كان يفعله أبناء هذه المناطق لقراهم، وهم من المتنفذين والذين أصبحوا أثرياء، جراء سلطتهم التي حصلوا عليها من دماء أبناء هذه القرى، خاصةً وأن معظم التبرعات التي قدمت للتعويض للمتضررين، كانت من تجار وصناعي حلب ودمشق، حتى أن الرئيس بشار الأسد وابن خاله رجل الأعمال رامي مخلوف، وهما من أبناء القرى المحترقة استثمرا في مأساة الأهالي بلعبة سياسية، حسمتها زوجة الأسد لصالحها بتوظيف ما تم جمعه من تبرعات؛ لإعادة بعض البيوت المحترقة لما كانت عليه قبل الحرائق، لكن تزامن هذا النشاط مع إهانة العديد من هؤلاء الأهالي وغيرهم في حفل رعته مؤسستها العرين في ملعب بابا عمرو في حمص.
في نفس السياق اشتكى عدد من أهالي بعض هذه القرى، وخاصةً أبناء قرية الفاخورة في ريف اللاذقية حول عمل لجنة تقييم الأضرار والحرائق في القرية، فقد تحدث أحد أبناء القرية عن تقييم هذه اللجنة لأرض لم تحترق بقيمة مليون ليرة، بينما تم تقييم أخرى طال الحريق منها عشر دونمات من شجر الزيتون بمبلغ 250 ألف ليرة، وهذا حال العديد من المتضررين على حد قوله، بينما تحدثت أم إيهاب، وهي أرملة لجندي قتل في درعا أثناء خدمته في الجيش عن مصير رزق أولادها الثلاثة اليتامى، الذين فقدوا أباهم في الحرب دفاعاً عن وطن قيادته تسرق المعونات والمساعدات من فم أبناء الشهداء الذين تركوا عائلاتهم من أجل الدفاع عنهم وعن مناصبهم، وتضيف: كنا نعيش بالحد الأدنى، لا ماء ولا كهرباء ولا حتى اتصالات في كثير من الأحيان، كنا ومازلنا لا نستطيع تلبية طلبات أبنائنا البديهية، ونبرر ونقول نحن في حالة حرب وعلينا البقاء صامدين لأجل الانتصار، لكن هذا كله لم يجعل الحكومة والدولة التي حماها زوجي وأخي واستشهدا من أجلها، تلتفت لنا، فأولادي لم يستطيعوا أن يعيشوا تحت ظل والدهم ورعايته؛ بسبب خدمته في الجيش، وهم اليوم بلا حاضر ولا مستقبل، بسبب الحرائق والوعود الفارغة التي نالتنا من الحكومة.
تنقسم الطائفة العلوية على نفسها بين متنفذ يعيش في المدن ويبني منزلاً فارهاً في الضيعة، وعائلات بسيطة تعيش في بيوت التبن والخشب، وتعتاش على زراعة ما يحيط بها، تعيش هذه العائلات تحت نير البساطة والفقر والبؤس، وتتحمل أعباء الحياة وتقصير الدولة تجاه مواطني الريف وتنميته، فلا طرقات ولا خدمات ولا مصادر طاقة، إلا أن ما يميز أهل الريف في الساحل والقرى ذات الغالبية العلوية أنهم يظنون أن شكل الحياة هذا، هو ضريبة قبول أبنائهم في المجتمع والجيش، الذي يشكل بدوره استمراريتهم في البقاء، فتتحول الحقوق والواجبات والعيش الكريم من مفاهيم المواطنة، إلى مفاهيم الولاء للقائد والطائفة.