السيناريو الذي قتل البغدادي (2-2)
حسن حسن – محلل وكاتب
“إرادة النصر”
بصرف النظر عن التفاصيل المقدمة إلى قناة العربية، شنت السلطات العراقية والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة سلسلة من الحملات المكثفة عبر شمال وغرب العراق في يوليو 2019 تحت شعار “إرادة النصر”.
وجاءت الحملات استجابة لعدد من العوامل: زيادة أنشطة تنظيم الدولة الإسلامية، خاصة في الليل واتباع تحذيرات البنتاغون في تقريره الصادر في أغسطس / آب 2019 حول تجديد التنظيم في العراق والمخاوف من أن المقاتلين الذين فروا من الجيب الأخير المجموعة المفقودة في سوريا في مارس عبرت إلى العراق.
منذ خسارة عاصمتها في الموصل والرقة في 2017-2018، وتحديداً بعد هزيمة الخلافة المادية في مارس 2019، عاد التنظيم بشكل كامل إلى أساليب التمرد، بما في ذلك نصب الكمائن ومداهمة المنازل والابتزاز والاغتيالات.
أثارت عمليات القتل المتكررة للمختارين أو رؤساء المدن وحرق المزارع مخاوف داخل المجتمعات المحلية في الشمال. أصبح السكان المحليون قلقين بشكل متزايد بشأن فشل الحكومة في حماية مجتمعاتهم من هجمات المسلحين. انطلق الجزء الأول من حملة “إرادة النصر” في 7 تموز / يوليو 2019، بمناسبة الذكرى الثالثة لتحرير الموصل. كان هذا في الوقت الذي دخل فيه صهر البغدادي العراق من سوريا. ركزت العمليات خلال هذه المرحلة الأولى على معاقل الدولة الإسلامية السابقة في نينوى وصلاح الدين والأنبار. وفي الشهر ذاته انطلقت مرحلة ثانية من العمليات ركزت على ديالى ومناطق شمال بغداد.
في الشهر التالي، على سبيل المثال، قامت القوات العراقية بتطهير 25 قرية في ديالى. كان هذا مهمًا لأن المحافظة كانت لفترة طويلة مركزًا لوجستيًا مفضلًا لتنظيم الدولة الإسلامية للانتقال من غرب وشمال العراق إلى العاصمة.
صرح رئيس الوزراء عادل عبد المهدي – آنذاك-، أن القوات الحكومية لم تواجه “مقاومة حقيقية” من تنظيم الدولة الإسلامية في المناطق التي وصفها بأنها “خطيرة”. حتى لو بدت أعداد المقاتلين الأسرى منخفضة، فإن هذه الحملات كانت متواصلة وامتدت إلى عشرات القرى والبلدات، على مدى عدة أشهر، واستمرت في الضغط على الدولة الإسلامية. لا يتحرك التنظيم حاليًا بأعداد كبيرة، وكثير من مقاتليه مشتتون ويعملون في خلايا صغيرة، يقدر عددهم مجتمعين بالآلاف.
في أغسطس 2019، أصدر البنتاغون تقريرًا آخر حذر فيه من أن الدولة الإسلامية تعيد البناء في مناطق نائية يصعب على القوات العراقية تأمينها. وفي الشهر نفسه، أعلنت السلطات العراقية عن حملة لتعزيز الأمن في ريف الأنبار. قبل أقل من شهر من مقتل البغدادي، أفادت وسائل إعلام عراقية أن حملة إرادة النصر طالت عدة “مضافات” في الأنبار خلال مرحلتها السادسة في الأسبوع الأول من أكتوبر.
كان تنظيم الدولة الإسلامية قد اعتمد على وجود رعاة الأغنام في الصحراء للخدمات اللوجستية والتحركات، وجعلت العمليات العسكرية من الصعب على الرعاة مواصلة الرعي في تلك المناطق.
قامت القوات العراقية بتطهير 25 قرية في ديالى. كان هذا مهمًا لأن المحافظة كانت لفترة طويلة مركزًا لوجستيًا مفضلًا لتنظيم الدولة الإسلامية للانتقال من غرب وشمال العراق إلى العاصمة.
قال الزعبي، صهر البغدادي، لقناة العربية إنه مكث مع البغدادي لمدة 12 يومًا في الأنبار (رغم أنه لم يحدد متى)، إن تلك الحملات طردت الرعاة المتجولين من هذه المناطق. وأضاف: “القوات الأمنية زادت الضغط على الصحراء، مما أجبر رعاة الأغنام على مغادرة الصحراء، لذلك أصبح “البغدادي” قلقًا على الوضع”.
التفاصيل من السلطات العراقية إلى قناة العربية حول الظروف التي أدت إلى مقتل البغدادي، والواقع، يشيران إلى أن الدولة الإسلامية لم يكن لديها خيار سوى إخراج زعيمها من الصحراء الشاسعة التي تمتد بين البلدين.
قُتل المسؤولون عن أمن البغدادي واحدا تلو الآخر في أعقاب عملية يوليو/ تموز 2019 لتعقب الزوبعي. قُتل البغدادي عندما كان صهره مسؤولاً عن أمن البغدادي، بحسب مسؤولي المخابرات العراقية.
ووصف الزوبعي، للعربية، تركيز البغدادي الشديد على الاحتياطات الأمنية، بما في ذلك طلب مساعديه مغادرة مخبأ الصحراء ليلاً والاستماع إلى أصوات أي طائرة بدون طيار أو أصوات طائرة لفترة قبل أن يغامر الخليفة بالخروج من موقعه، مكان الاختباء.
في مرحلة ما بعد القبض على الزوبعي في يوليو 2019، انتقل البغدادي إلى شمال سوريا حيث تهيمن على تلك المنطقة مجموعات قوية كان البغدادي يشن حربًا ضدها واستمرت الخلايا النائمة لتنظيم الدولة الإسلامية في استهدافها في السنوات الأخيرة، بشكل أساسي هيئة تحرير الشام، وهي جماعة تأسست بأوامر من البغدادي نفسه سنة 2011 تحت اسم جبهة النصرة، قبل انشقاقها ومبايعتها لتنظيم القاعدة في 2013، ثم في 2016 تغيير علامتها “التجارية” بعيدًا عنها “القاعدة”. على الرغم من الأساس المنطقي للاختيار، فإن شمال سوريا يمثل خطرًا كبيرًا على البغدادي وسلامته.
علاوة على ذلك، زعم صهر البغدادي أن الأخير أخبره ذات مرة أن المتحدث السابق باسم الدولة الإسلامية، أبو الحسن المهاجر، وقائد بارز آخر تم تأمينهم في إدلب في بيوت آمنة “أفضل مما لديك هنا” (العراق). وبحسب اعترافات الزوبعي، فقد غادر المتحدث آنذاك الأنبار في وقت سابق؛ عندما أصبحت الأنبار غير آمنة. من المحتمل أن يكون البغدادي قد شعر بالراحة الكافية للانضمام إلى المتحدث في شمال سوريا.
على الرغم من هيمنة الجماعات المتنافسة في إدلب، كان تنظيم الدولة الإسلامية يدير شبكة سرية من المهربين والخلايا النائمة في الشمال منذ المراحل الأولى للصراع السوري.
قبل 2014، كانت الجماعة التي كانت تُعرف آنذاك باسم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، لا تزال تعمل في جميع أنحاء شمال غرب سوريا، بما في ذلك حلب وإدلب. بعد حملة دامية ضد الفصائل السورية، في أواخر 2013 وأوائل 2014، طُردت الجماعة من الشمال الغربي واضطرت إلى التراجع إلى شرق سوريا، قبل صعودها المذهل في شرق سوريا وشمال العراق خلال صيف 2014.
على هذا النحو، من غير المرجح أن يكون شمال سوريا هو الخيار الأول للجماعة كمخبأ للبغدادي. منذ خروج التنظيم من الشمال الغربي، واصل أعداؤه السابقون في صفوف المعارضة السورية المناهضة للأسد قمع الجماعات التي يشتبه في ولائها لتنظيم الدولة الإسلامية، بما في ذلك مجموعة كانت تعرف آنذاك باسم جند الأقصى ولاحقاً أفراد وخلايا نائمة مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية. وكثيرا ما اتهمت الفصائل التنظيم بإدارة شبكة سرية للتسلل إلى صفوفهم واغتيال قادتهم.
من ناحية أخرى، كان العراق دائمًا مركز ثقل الجماعة، والذي ينحدر منها معظم قادته وكبار قادته وحيث يعمل لأطول فترة (منذ الغزو الأمريكي سنة 2003).
المتمردين السنة في العراق، بدءًا من البعثيين إلى الجهاديين، الذين سيطروا ذات يوم على المشهد في شمال أو غرب العراق، اختفوا تمامًا منذ ذلك الحين، ولم يكن تنظيم الدولة الإسلامية إلى حد كبير محل نزاع في ذلك المجال.
على الرغم من هيمنة الجماعات المتنافسة في إدلب، كان تنظيم الدولة الإسلامية يدير شبكة سرية من المهربين والخلايا النائمة في الشمال منذ المراحل الأولى للصراع السوري.
في سوريا، على النقيض من ذلك، لدى الجماعة الكثير من المنافسين، وربما كان الافتقار إلى المنافسين السنة المتطرفين لتنظيم الدولة الإسلامية داخل العراق عاملاً رئيسياً وراء تقييم البنتاغون في آذار بأن التنظيم كان “يجدد الوظائف والقدرات الرئيسية في العراق بسرعة أكبر من سوريا”.
خاتمة
بالنظر إلى هذه الديناميكيات، ربما لم يكن أمام البغدادي سوى القليل من الخيارات سوى المخاطرة بالسفر من العراق إلى شمال سوريا، على الأرجح من الأنبار عبر المناطق الريفية الخاضعة للسيطرة الإسمية للنظام السوري، للاختباء في منطقة تسيطر عليها قوات جهادية قوية ملتزمة بقتل الجهاديون المتنافسون داخل الدولة الإسلامية.
بدا مقتل البغدادي نتيجة الحملة المتواصلة والضغط المستمر على تنظيمه في منطقة جغرافية حاسمة لبقائه وعودة ظهوره في المستقبل، وهي الأنبار والمناطق الحدودية المحيطة بها. من وجهة نظر الدولة الإسلامية، لم تتوقع أبدًا انتهاءً سلسًا لخلافتها.
كانت الأنبار والمناطق السورية المجاورة لها محور استراتيجية الحرب الطويلة هذه – بسبب الصحراء والمناطق الحدودية، ووجود الجماعة منذ فترة طويلة في تلك المناطق. وحقيقة أن هذه المنطقة، التي يسكنها العرب السنة، يسيطر عليها حاليًا الأكراد في سوريا والميليشيات الشيعية في العراق، الذين يعتبرهم العرب السنة محليًا غرباء.
لقد استوعب التنظيم حتى الآن أسوأ الانتكاسات وأظهر خفة الحركة الداخلية على الرغم من الضربات الشديدة. لم تكن نهاية الخلافة الإقليمية تعني نهاية التنظيم. قد لا يتوقف مستقبلها بعد البغدادي بالضرورة على قدرتها على تبرير فشلها في الوفاء بوعودها لعام 2014، ولكن على استمرار جاذبيتها لمجموعة ديموغرافية ضيقة تنجذب عمومًا نحو الجهادية.
كان من الممكن أن يؤدي انتهاء الخلافة المادية وفشلها في “غزو روما”، كما وعدت في 2014، إلى شل الحركة وتسبب في انشقاقها.
في الوقت نفسه، حدت الحملة التي لا هوادة فيها في شمال وغرب العراق من قدرة الدولة الإسلامية على استغلال الأحداث التي من شأنها أن تفتح له فرصة أخرى، مثل التوغل التركي في الشمال السوري والاضطرابات في وسط وجنوب العراق. نتيجة حركة احتجاجية غير متوقعة ضد الحكومة الشيعية في بغداد. يمكن القول إن موت البغدادي كان دليلاً على فعالية تلك الحملة. يمكن أن يؤدي الضغط المستمر إلى إضعاف التنظيم بشكل أكبر وتقليل قدرته على إعادة بناء نفسه في المستقبل.
الدرس المستفاد للعراق والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة هو أن الدولة الإسلامية لم تكن قادرة على التعافي بالكامل بعد انهيار خلافتها المادية بسبب الضغط المستمر عليها. لكن الأحداث الأخيرة مثل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بسحب قواته من سوريا، ما فتح الباب أمام توغل تركي في الأجزاء الشمالية من البلاد، قد يُمكّن منظمة أخرى من إعادة بناء وتوسيع عملياتها.
محلل وكاتب يركز على الإسلام المتشدد والتطرف والجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. مؤلف “داعش: داخل جيش الإرهاب”، وهو أحد أكثر الكتب مبيعاً في صحيفة نيويورك تايمز.
