مجتمع

عندما أفسدت الأيديولوجية طموحات السينمائيين

جوليا العبد (دمشق)

تمثل قصة السينما السورية بوصفها أداة ثقافية قصة التاريخ الحديث لسوريا على الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي، إذ أن شرط الفن عموماً والسينما خصوصاً يتماثل في موضوعات مثل الحرية والمواطنة وأسئلة الهوية.

يظهر للمطلع على تاريخ السينما السورية بكل مطباته وعوائقه كيف كان يبشر بولادة سينما سورية أصيلة، سينما تحقق مبتاغاها باعتبارها فن جماهيري ذو فاعلية ثقافية واجتماعية وسياسية، لكن مع بداية ما سمي ب ثورة آذار عام 1963 وبعد مضي قرابة ربع قرن من الإنتاج المستقل والخاص للأفلام السينمائية السورية، أسست المؤسسة العامة للسينما، وكان من المفترض أن تكون ذات طابع مستقل إدارياً ومادياً لكنها بالتأكيد لم تكن مستقلة أيديولوجياً، حيث عمدت تدريجياً إلى احتكار الإنتاج ودور العرض والقوانين الرقابية الناظمة لهذه الصناعة.

بداية كان الاتهام الواضح لشركات الإنتاج السينمائي الخاصة أنها لا تقدم سوى سينما تجارية ولا يهمها سوى الربح، وأن التأثير الهائل الذي تقوم به السينما على جيل الناشئة من شأنه أن يحدث خللاً في البنية الاجتماعية كما يؤثر على تعزيز المبادئ الوطنية والقومية، فعملت الدولة بكل ما فيها على تقويض دور هذه الشركات إنتاجياً، ومن ثم مصادرة حقوق الاستيراد والتوزيع منها لصالح القطاع العام، فأضحى القطاع العام هو المنفذ الوحيد لكل وجهات النظر السينمائية السورية الداخلة والصادرة.

مع هذا استطاع العديد من السينمائيين السوريين الشغوفيين بقضايا الهوية والوطن أن يقدموا عبر عدة أفلام هواجسهم وتطلعاتهم، محاولين استخدام هذه الأداة ذات التأثير السحري ليقولوا كلمتهم ضد الفساد والاستبداد، مستخدمين حرفتهم في التحايل على القطاع الوحيد الذي ينتج ويقدم سينما في البلاد.

اعتمدت المؤسسة طوال نصف قرن وأكثر على أسماء مخرجين وكتاب محددة تتكرر دون كلل، وحتى هذه اللحظة، وموضوعات لا تلامس الجمهور

إلا أن سلطان هذه المؤسسة السلطوية ومن كان يقف وراءها لم يكل أو يمل في إسكات وتهميش الأصوات الفنية الحقيقية، بل استطاع أيضاً أن يستخدم كل طاقته في تنشئة جيل يتحدث باسمه ويتبنى أفكاره، وبالتالي ينتج أفلاماً تتحدث عن عظمته دون الخوف من الآراء الحرة التي كانت تنتقده خفيةً.

اعتمدت المؤسسة طوال نصف قرن وأكثر على أسماء مخرجين وكتاب محددة تتكرر دون كلل، وحتى هذه اللحظة، وموضوعات لا تلامس الجمهور من قريب أو بعيد، وبشكل فني قديم لا يتماشى مع التطور الحضاري، نتج عن هذا عزوف جيل الشباب ليس فقط عن المشاهدة بل أيضاً عن المشاركة الفعالة في المشهد السينمائي بأي دور ممكن.

مع بدايات عام 2011 وما جاء به من أفق وآمال أطلقت المؤسسة عدة مبادرات وذلك تداركاً لتنامي الشغف السينمائي المترافق مع الشعور بالحرية، واحتواءً لهذا الموقف ادعت دعمها للشباب وذلك بإعطاء بعض الشباب الذين يملكون طموحاً سينمائياً 300 ألف ليرة سورية ويوم تصوير واحد لإنتاج مشاريعهم، ومازالت تجدد وعدها عاماً بعد عام بإقامة معهد عالي للعلوم السينمائية، بالإضافة إلى تقديم دورات مأجورة يغلبها الطابع النظري حول صناعة السينما.

تقدم المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة سنوياً عدة فرص لمخرجين مكرسين وبميزانيات ضخمة تقارب 200 مليون وسطياً لإنتاج أفلام لا يراها سوى صانعيها أو جمهور ضيق يصفق خوفاً أو تزلفاً، ويجمع الشباب الفتات ليحصل على فرصة ضيقة هنا أو هناك بعد تقويض أفكاره رقابياً وإنتاجياً من قبل نفس الفئة المكرسة.

يطالب الشباب سراً بسينما مستقلة، همساً بعودة القطاع الخاص، لمزاً بسينما تجارية متحررة من القيود الأيديولوجية، قد يستطيع عبرها أن يتساءل عن الوطن والهوية والحرية بعيداً عن فئة محتكرة تلقمه ما هو جاهز، يسافر البعض إلى مصر أو لبنان ليدرس فنون السينما، ويلجأ الكثير إلى المؤسسات والمنظمات التي تدعم سينما متوسطة الإنتاج، ينجح البعض ويفشل البعض في تجاوز الخطوط والحدود، لكن يبقى الشغف السينمائي يجمعهم، وهناك مؤسسة وحيدة تقصيهم وتتجاهلهم.

زر الذهاب إلى الأعلى