عندما توسل الأسد أمريكا لترخيص طائرته “القطرية”
كان الأسد قبل 2011 يَتهم في كل المحافل والمناسبات وعلى الدوام الولايات المتحدة الأمريكية بفرض حصار خانق على بلاده لتستسلم وترضخ لها، إلا أنه كان يؤكد دائماً على عزمه الاستمرار في مواصلة المقاومة، ولكن في ذات الوقت كانت هناك كثير من الدول كتركيا وقطر والإمارات ومصر تحاول أن تكون حلقة وصل بين النظام السوري والمجتمع الدولي، بهدف كسر عزلته الدولية والتهذيب من تصرفاته، حيث كانوا يلمسون فرقا كبيرا بينه وبين والده، الذي كان معروفا بالتزامه بوعوده التي يتم البناء عليها، على عكس “بشار” الذي عرف بالكذب، حيث كانت كلمته تتناقض مع تصرفاته، وهذا ما جعل الجميع يملون منه، إلا أنهم لم يتمكنوا من تجاهلة كليا، باعتباره يمثل بلدا موجودا على الخريطة وتربط بلده علاقات جوار مع بلدان أخرى، فكانت العلاقات مبنية على عدم الثقة وفقدان الارتياح، إلا أن التعاطي معه ضرورة لعدم تركه لهواه، فيما كان يتشدق بادعاءات الممانعة والمقاومة ويحمل الآخرين من الدول المحيطة تبعات أخطائه على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية.
بين عامي 2005 و2010 كانت أكثر الدول دعما للأسد هما تركيا وقطر، حيث كانتا تستثمران به بشكل حقيقي، فكانت قطر تدعمه ماليا وتركيا دوليا وكانت حلقة الوصل بينه من جهة وبين إسرائيل وأمريكا من جهة ثانية، دعمهما للأسد جعلاهما تعتقدان أنهما أصبحا مقربين من النظام إلا أنه كان يعتبر ما يجري مساعدة لهذين البلدين على لعب دور إقليمي ودولي لتلميع صورتهما وبالتالي ما يجري هو تبادل مصالح بشكل متساوي.
وكانت طائرة إير باص الحديثة A340 نموذج من الدعم القطري المباشر وهدية لرأس النظام، حيث تبلغ قيمتها حوالي 300 مليون دولار، ولكن وبسبب العقوبات المفروضة على سوريا ولأن الطائرة أمريكية، منعت من المبيت في سوريا أو حمل العلم السوري أو حتى تسجيلها على أنها طائرة سورية، فكانت تقيم في قطر وتأتي إلى سوريا عند الحاجة لها ثم تعود لقطر، “الأسد استخدمها لسفره إلى فنزويلا”، الأمر الذي أدى لاستياء بشار الأسد راغبا في أن تظل الطائرة في سوريا وضمن ممتلكاته.
بعد صعود باراك أوباما عام 2008 والذي كانت سياسته تتمثل في الانفتاح على الدول غير الموالية للولايات المتحدة الأمريكية مثل سوريا وإيران، تلقف النظام هذه المبادرة بإيجابية محاولا التملق لأمريكا ووصفها بأنها سيدة العالم وأن الأوربيين لا وزن لهم على مستوى الفاعلية.
طريقة بشار النرجسية بالتفكير بأنه مركز العالم وأن على الجميع أن يتقربوا منه؛ ليساعدهم ويعطيهم دورا في فلكه، ظهر ذلك جليا عند حديثه مع الوفد الأمريكي، فكان اهتمامه منصبا على ترخيص الطائرة “إير باص” وفك الحظر المفروض عليها كإثبات حسن نية من قبل الأمريكان
اتخذت الإدارة الأمريكية خطوتين أساسيتين: تعيين “جورج ميتشل” مبعوثا أمريكيا للسلام في الشرق الأوسط “السلام بين إسرائيل والدول المحيطة بها”، ووصل وفد دبلوماسي أمريكي لسوريا بعد وساطة من السيناتور جون كيري، مؤلَّف من مدير الشرق الأوسط في البيت الأبيض وسفير أمريكا في إسرائيل لاحقا “دان شاكيرو”، ومساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط “جيفري فيلدمن”، حيث التقيا ببشار الأسد وبحثوا نقاط الالتقاء والاختلاف وكيفية الانطلاق نحو تسوية أو تفاهمات إيجابية بين الطرفين، وكان الموضوع الأمني المتمثل في الحدود مع العراق هو الموضوع الأساسي وفي المقام الثاني كان السلام مع إسرائيل، فيما حلت العلاقات الثنائية “الأمريكية – السورية” في المقام الثالث.
طريقة بشار النرجسية بالتفكير بأنه مركز العالم وأن على الجميع أن يتقربوا منه؛ ليساعدهم ويعطيهم دورا في فلكه، ظهر ذلك جليا عند حديثه مع الوفد الأمريكي، فكان اهتمامه منصبا على ترخيص الطائرة “إير باص” وفك الحظر المفروض عليها كإثبات حسن نية من قبل الأمريكان، جاعلا من هذه الخطوة نقطة البداية للتفاهم بين الطرفين، فيما حاول الأمريكان إفهامه أن رفع الحظر عملية معقدة ليست بيد الرئيس الأمريكي، بل هي عملية قانونية يجب أن تمر بالكونغرس والحصول على موافقته، أو أن تقوم سوريا بعمل شيء كبير جدا على الصعيد السياسي، يجعل الرئيس يلغي هذا النوع من العقوبات ثم يخبر الكونغرس، إلا أن رفع الحظر عن الطائرة بهذا الظرف مستحيل، رافضين جعل هذه النقطة بداية للحوار وبناء الثقة، إلا أن بشار الأسد رفض التخلي عن شرطه الذي لم يجد له الأمريكيون أي مبرر أو جدوى، فيما أبدى الأمريكان مرونة في إمكانية زيادة المساعدات الإنسانية المقدمة للاجئين العراقيين في سوريا.
وفي السياق كان “جون كيري” يقول للأسد على الدوام إن الشعب السوري شعب فتي ذو طاقات خلاقة، وصل الكثير من أبنائه إلى سوق العمل وأثبتوا جدارة، لافتا إلى ضرورة إيجاد فرص عمل لأفراد الشعب والتخفيف من الفساد وعمل إصلاحات إدارية وسياسية واقتصادية وخلق فرص استثمار، لافتا إلى أن هذه الأمور هي الضمان لاستمرار الحكم وتجاهلها يسبب مشكلات، مكررا ذلك في واشنطن على سبيل توعية بشار الأسد ولفت انتباهه إلى عدم وجود بنية تحتية صالحة في سوريا، وتلك عوامل تؤدي بالضرورة لعدم الاستقرار، مما جعل الأمريكان يرسلون وفدا تقنيا للتواصل مع رجال الأعمال السوريين ودراسة آفاق التعامل في القطاع الخاص بين الطرفين، بهدف تطوير وتحديث المجتمع، إلا أن بشار الأسد لم يعتبر ذلك مهما.
وبعد سنة تقريبا من المحادثات، توصل الطرفان إلى اتفاقيات لبناء الثقة تتمثل باعتراف السوريين بالمدرسة الأمريكية في دمشق ومنحوها ترخيصا، حيث كانت موجودة وملحقة بالمركز الثقافي دون صيغة قانونية، كما منحوا الأمريكان موافقة على شراء قطعة أرض للسفارة الأمريكية خارج دمشق دون تحديد المكان، معتبرا هذه خطوات فاعلة في بناء الثقة، وطالبوا بالمقابل بإيفاد سفير أمريكي لدمشق لإعادة الشرعية الدولية للأسد، وتزويد الولايات المتحدة لدمشق بتكنولوجيا لمكافحة الإرهاب مثل المناظير الليلة ورفع الحظر عن تسجيل الطائرة القطرية، بالإضافة إلى توفير قطع غيار للطائرات المدنية حيث تبرعت فرنسا بطلب من إحدى مكاتب العلاقات العامة في أمريكا والتي تعمل لصالحها أن تتواصل مع الكونغرس لتسهيل وصول قطع غيار الطائرات لسوريا.
وقبيل انطلاق الثورة كان هناك محادثات “إسرائيلية – سورية” بإشراف أمريكي، حيث وصل الأطراف لمراحل متقدمة، بالتزامن مع محادثات “أمريكية – إسرائيلية – سورية” عن طريق تركيا “بدعم قطري”، إلا أن التدخل الأمريكي لم يدم، بسبب تعنت النظام وطريقة تفكيره وتقديمه نفسه، ثم انطلقت الثورة وانقضّت كل التوافقات.. ولم ترخص طيارة “الأسد””.