كيف تموضعت روسيا في عقدة شمال شرق سوريا
أعلنت الحكومة الأمريكية أن سبب وجود قواتها في شمال شرق سوريا هو هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ومنعه من العودة، ومواجهة المشروع الإيراني، والضغط الاقتصادي والسياسي على نظام الأسد؛ ليبدأ عملية سياسية تنفيذا لقرارات مجلس الأمن أهمها 2245، القرار الذي وضع خارطة طريق متفق عليها دوليا لإنهاء المأساة السورية.
ورغم أن الولايات المتحدة استثنت التواجد العسكري الروسي من قائمة أهدافها، إلا أن الروس يعتبرون التواجد الأمريكي في سوريا غير شرعي ويطالبونهم بالانسحاب، وخصوصا من مناطق حقول النفط، ورغم أن “داعش” والنظام وإيران لا يمثلون تهديداً جدياً للوجود الأمريكي؛ لعدم وجود حاضنة شعبية أو تقبل لهم ولأفكارهم، إلا أن الأمر مختلف تماما بالنسبة للقوات الروسية التي تعمل على تأليب المجتمع العربي والكردي في شمال شرق سوريا ضد الوجود الأمريكي، ويعملون بشكل منظم وجدي لسحب الحاضنة الشعبية من قوات التحالف.
تدرك روسيا أن وجود القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا يمثل عقبة بوجه قدرتها على حل الأزمة السورية بطريقة تخدم لمصالحها، حيث حاولت روسيا أن تتحدى بشكل غير مباشر التواجد الأمريكي، ففي شهر في شباط/ فبراير 2018 عندما قامت عناصر من شركة “فاغنر” العسكرية الروسية التقدم إلى حقل كونيكو النفطي ولكن القوات الأمريكية كانت واضحة بحماية خطوطها الحمراء الجغرافية والأمنية، وتم قتل عدد كبير من القوات الروسية المهاجمة.
وفي أكتوبر العام 2019 أدى الاجتياح التركي لمناطق شرق الفرات إلى دخول القوات الروسية إلى تلك المنطقة بطريقة لم تكن متوقعة من أحد، وتمكن الروس من الاستفادة من هذه الفرصة بسرعة، وأدركت روسيا قواعد اللعبة في المنطقة أكثر من الأمريكان فهم لم يتمسكوا بقوات “قسد” كطرف وحيد لإدارة المنطقة أو كمصدر وحيد للتواصل اليومي، بل اعتمدوا على أذرع اجتماعية والتواصل مع شخصيات مستقلة وأكاديمية ووجهاء العشائر من أكراد وعرب.
أدركت روسيا قواعد اللعبة في المنطقة أكثر من الأمريكان فهم لم يتمسكوا بقوات “قسد” كطرف وحيد لإدارة المنطقة أو كمصدر وحيد للتواصل اليومي
وهذا التواصل المباشر وعلى كل المستويات في المنطقة أعطى الروس صوت ومصداقية أكبر لدى المجتمعات المحلية وخصوصا عندما يتحدث الروس عن مواضيع حساسة مثل إعادة النازحين لمناطق التواجد التركي في شمال شرق سوريا ومناقشة وضع عفرين وضرورة إيجاد حلول دستورية للمشاكل الكردية.
كما استفاد الروس من التفاهمات مع الجانب التركي حول منطقة شرق الفرات عموماً، وريف الحسكة الشمالي خصوصاً، لتعزيز نفوذهم وخلق مجموعات قتالية مرتبطة بهم، مستفيدين أيضاً من حاجة “قسد” لهم حتى لا تواجه الجيش التركي، حيث قامت روسيا بإنشاء مجموعات عسكرية خاصة بها تدربها في مطار القامشلي وتعهدت بدفع رواتب تصل إلى 150 ألف ليرة سورية للمتطوعين، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة.
ولاكتساب ثقة السكان المحليين وإحاطتهم بأن وجودهم دائم، وسع من قاعدتهم العسكرية في مطار القامشلي بعد الاستيلاء عليه بشكل كامل وسط حديث عن نية موسكو جعله قاعدة عسكرية لها في المنطقة تماثل أهميتها مطار حميميم، حيث تم نقل عدد من المروحيات والعتاد العسكري إليه من بينها منصة دفاع جوي من طراز “بانتسير”، ولنفس السبب تعمدوا التصادم بشكل مدروس مع القوات الأمريكية بشكل دوري.
ويبقى الهدف الروسي السياسي هو إخراج القوات الأمريكية وإعادة النظام إلى مناطق شرق الفرات، حيث قامت روسيا بعقد عدد من اللقاءات بين “قسد” والنظام، محاولة إيجاد قواسم مشتركة لبدء حوار جدي بين الطرفين، والبحث عن آليات عمل مشتركة عسكرية واقتصادية، وقام النظام بطلب روسي، بإصلاح بعض البنى التحتية في مناطق “قسد” ولاسيما في قطاع الكهرباء والماء– منافسا لمشاريع الاستقرار التي يقوم بها التحالف الدولي.
وبنفس الوقت وكردٍ للجميل، قامت “قسد” بترتيب لقاءات للروس مع ممثلي المجالس المحلية في مناطق سيطرتها لمناقشة الأوضاع الخدماتية في تلك المناطق، وكيف يمكن للروس أن يساهموا بهذا المجال.
وفي الاجتماعات التحضيرية بين مجلس سوريا الديمقراطية وممثلي المجالس المحلية ذكروا أن هذه اللقاءات ليست سياسية، ولا تهدف لعودة النظام بل هي نتيجة تقاعس المجتمع الدولي عن تقديم الخدمات الأساسية لسكان المنطقة، ولا يمكن انتظار الدعم الغربي أكثر من ذلك.
وبنفس الوقت يعمل الروس على التواصل مع بعض القيادات المحلية في دير الزور ودعوتهم إلى الذهاب لحميميم، كما أرسلت روسيا عروضا لأهالي تلك المنطقة تعدهم بحكم شبه ذاتي، على غرار وعودهم للأكراد مع امتيازات اقتصادية وأمنية مقابل التصالح مع النظام وطرد الأمريكان من مناطقهم، ومازالت هذه الجهود مستمرة دون أي نتيجة.
لا يمكن تقييم أي دور للروس أو أي طرف أو دولة أو قوى إقليمية أو دولية في النزاع القائم بين الأطراف المتنازعة في شمال شرق سوريا دون معرفة ماهية العلاقة التي تربط “قسد” مع حزب العمال الكردستاني
يقابل التحرك الروسي برأي المجتمع المحلي وجود تكتم عن العلاقات بين القوات الأميركية و”قسد”، حيث أشارت تصريحات صحفية لمسؤولين من دول التحالف عن تقديم المجتمع الدولي لمساعدات للمناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد”، ولكن على أرض الواقع، هناك امتعاض شعبي واضح نتيجة الواقع المتردي الاقتصادي والمعيشي الصعب، وعدم كفاية الدخل، والكثير من هذه الأمور يتحمل مسؤوليتها الجانب الأميركي مع “قسد”. ويضاف إلى ذلك عدم التزام أمريكي سياسي لـ”قسد”، وترك موضوع حقوق الأكراد للجنة الدستورية التي يعمل الأمريكان على إدخال كل المكونات الكردية فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
الواقع أنه لا يمكن تقييم أي دور للروس أو أي طرف أو دولة أو قوى إقليمية أو دولية في النزاع القائم بين الأطراف المتنازعة في شمال شرق سوريا دون معرفة ماهية العلاقة التي تربط “قسد” مع حزب العمال الكردستاني، ولا يمكن تقييم دور “قسد” وقدرتها على اتخاذ أي قرار “بشكل منعزل” دون معرفة لأي درجة تمتد أذرع حزب العمال الكردستاني وهيمنته على قيادات هذا التكوين، وإلى أي مدى تخضع أجندة “قسد” لرغبات وأجندة حزب العمال الكردستاني، فهذه العلاقة هي ما سيحدد مصير المنطقة.
والتقاربات التي نشهدها الآن بين “قسد” والنظام والروس هي ليست ردة فعل على الاجتياح التركي فقط، بل ترتبط بعلاقة وطيدة وتفاهمات قديمة عميقة تتعلق بصراعات قديمة في المنطقة، ولها جذور تاريخية.
هذه العلاقة في الحقيقة لا تعبر عن إرادة الأكراد أو العرب سواء كانوا مشاركين في الإدارة الذاتية أو خارجها، ويتضح ذلك بعدم تقدم المفاوضات الكردية – الكردية بشكل كاف، والتي ترعاها فرنسا والولايات المتحدة؛ لأنها لا تناسب المشروع الروسي وتوجهات حزب العمال الكردستاني.
بالنهاية رغم كل ما تبذله روسيا من جهود في مختلف المسارات المشار إليها سابقا؛ لتثبيت وجودها في مناطق شمال شرق سوريا، والعمل على طرد القوات الأمريكية هناك ليس قابلا للنجاح، فإن ما قامت به روسيا من قصف للمدنيين في كل أنحاء سوريا، وضعف قدراتها المالية وتعاونها مع تركيا ضمن اتفاقيات أستانا الذي يثير قلق الأكراد ودعمها للنظام، الذي لا تخفي رغبتها بعودته إلى هذه المنطقة الذي يرفضه العرب يجعل سياستها غير قادرة على الاستمرار في المحيطين العربي والكردي هي محكومة بالفشل.
وعلى دول التحالف الدولي النظر بعمق أكثر لمجريات الأمور، وتوسيع التعاون مع السكان المحليين وإجراء انتخابات محلية تعكس المزاج الشعبي، والإسراع بتنفيذ مشاريع الاستقرار بطريقة يشعر فيها السكان المحليين من عرب وكرد انهم شركاء، وليسوا ضيوفا في بلدهم.