“ملفات سوريا” في “حي الأمين”.. من تواطأ لبيع أملاك اليهود؟
جوليا العبد (دمشق)
تغيرت الكثير من معالم الأحياء في سوريا خلال فترة الحرب، ولا يقتصر هذا التغيير على ما خلفته الحرب من تدمير وتهجير قسري فحسب، بل امتد ليشمل التركيبة الديموغرافية للعديد من المناطق، وتعتبر الأحياء القديمة عامة وحي الأمين خاصة داخل سور دمشق خير مثال على هذه التغييرات، وتعبيراً واضحاً عن أهداف السلطة من هذه التغييرات.
يحتل حي الأمين مكاناً مركزياً من حيث المساحة والقيمة الاقتصادية والفكرية من دمشق القديمة، كما تميز عبر التاريخ بالتنوع الديني والطائفي، إذ يعتبر التجمع الأساسي لشيعة ويهود دمشق، إلى جانب قلة من الطوائف الأخرى، فقد تكنى الحي بهذا الاسم نسبة إلى رجل الدين الشيعي محسن الأمين الذي سكن الحي خلال النصف الأول من القرن العشرين بعد قدومه من لبنان لرعاية السكان من الطائفة الشيعية في سوريا، ورغم هذه التسمية الرسمية ذات الطابع الديني إلا أنه يعرف أيضاً بحارة اليهود حتى اليوم.
عاش اليهود بشكل رئيسي في حارة اليهود وأنشؤوا أعمالهم التجارية والصناعية في محيطها، وتميزوا بامتهان مهن الخياطة والتجارة في الأقمشة والصيرفة والحرف اليدوية من صياغة الذهب والنجارة والنقش على النحاس، وفي العصر الحديث درس أبناؤهم عدة اختصاصات جامعية أهمها الطب والصيدلة، لكنهم أيضاً وسعوا أماكن تواجدهم في دمشق، فسكن اليهود في حي القصاع والصالحية والشعلان وحي جوبر، وكان لهم عدة محلات تجارية وأراض زراعة، ولهم مقبرة خاصة بهم بالقرب من باب شرقي.
تميز يهود دمشق بتغلغلهم في البنية الاجتماعية والاقتصادية السورية، مع المحافظة على خصوصيتهم كونهم أقلية، وقد كان يمثلهم في برلمان عام 1919 وبعده عام 1928 النائب يوسف لينادو، وكانوا جزءا من الكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي.
كوماندوس إسرائيلي في جوبر
وكان لهم ما يقارب 20 كنيساً للعبادة، أشهرها كنيس جوبر الذي تدمر في الحرب بسبب تحول محيطه لساحة قتال رغم الحماية المكثفة له من قبل الدولة، ويقال إن الإسرائيليين بالتعاون مع قوات الكومندوز الأميركية عام 2013 دخلت الكنيس وحصلت على أهم المخطوطات والكتب اليهودية وقد وصلت إلى إسرائيل، أما ما تبقى من دور عبادة داخل سوريا فهي اليوم مغلقة لعدم تواجد العدد المحدد لإقامة الصلوات، فعكف اليهود في تعبدهم داخل منازلهم.
وعلى الرغم من تقديم الروس الوعود بحماية اليهود وإرثهم خلال الحرب فإن محاولات طمس معالم وجودهم الذين عانوا منها خلال سنوات، دفعت بالعديد منهم إلى المغادرة وعدم التفكير في العودة إلى سوريا إلا للزيارة، التي انقطعت عما تبقى من جدات وأجداد بعد عام 2012، وبذلك تناقص عدد يهود دمشق إلى ما يقارب 30 شخصا في بداية عام 2011، ولم يبق سوى كبار السن، فقد هاجر جميع الشباب والأطفال ورجال الدين تدريجياً، خاصةً في ظل عدم القدرة على ممارسة الطقوس الدينية والتعليمية الخاصة بالدين اليهودي، وسيطرة الخوف عليهم من استهداف تجمعاتهم أثناء الصلاة أو ممارسة الشعائر خلال الأعياد، فحادثة تفجير كنيس المنشارة عام 1949 مازالت حاضرة في الأذهان، بالإضافة إلى إغلاق مدرسة ابن ميمون الابتدائية ذات المرجعية الدينية اليهودية، أما اليوم فعددهم لا يتعدى 11 شخصاً، وذلك بسبب سفر البعض وموت البعض الآخر.
من يبيع أملاك اليهود
هنا السؤال الكبير في دمشق حول مصير أملاك اليهود، وبحسب جولة ميدانية لـ”ملفات سوريا” في حي الأمين، فإنه ييتم بيع أو تأجير الكثير من البيوت اليهودية التي غادر أهلها قبل تاريخ بداية الحرب في سوريا، تحت الضغط أو بالتواطؤ بين الأفرع الأمنية ورئيس الطائفة، وهناك ما تحول إلى منشآت سياحية، كفندق التليسمان، أو البيوت التي تؤجر لتصوير مسلسلات البيئة الشامية.
يتقاضى الأجرة عن هذه البيوت الأطراف المتواطئة، ذلك أن المنازل التي هجرها أهلها تركت في عهدة رئيس الطائفة الموسوية، الذي يدعي أنه يوصل الإيجارات إلى أصحابها ويشكك الكثيرون في ذلك، وإن كنت من أصحاب النفوذ وعلى معرفة وثيقة بأحد المسؤولين في الأمن العسكري فقد تستطيع الحصول على أحد هذه البيوت، وتحت هذه السيطرة ينأى اليهود المقيمون في دمشق اليوم بأنفسهم عن طرح أي رأي سياسي، ويغضون النظر عن ضياع حقوقهم وحقوق أقاربهم عبر تواطؤ رئيس الطائفة مع أجهزة الدولة.
يلتمس الزائر اليوم لحي اليهود الهدوء والبيوت المهجورة وهو القسم الذي يسيطر عليه فرع الأمن العسكري بالشراكة مع دائرة ممتلكات اليهود ومكتب عنبر إلى جانب وزارة الداخلية، أما الحال بالنسبة إلى الشيعة فالأمر مختلف تماماً، فهم اليوم يحتلون الجزء الآخر من الحي، والذي يضج بالحركة وبالحياة، إذ يسكنه ويتواجد فيه الأهالي من الطائفة الشيعية ويمارسون حياتهم فيه من أعمال تجارية ودينية، وهم يتوسعون في كل يوم، ويستضيف الحي أشخاصاً وعائلات من نفس الطائفة ومن جنسيات مختلفة كاللبنانيين والعراقيين، ويشترون ويستملكون العديد من الأماكن بأموال يرجح بأنها أموال إيرانية كما أخبرنا أحد أصحاب المكاتب العقارية، كما أن تورطهم في إحراق العديد من المحلات وأكبرها عام 2020 في سوق البزورية حاضر بشكل واضح وذلك بسبب رفض المالكين بيعهم إياها.
تعتبر عائلة النحاس ونظام من أشهر عائلات الشيعية في دمشق، وعلى الرغم من عمل عائلة النحاس في التجارة والصناعة منذ بداية القرن العشرين إلا أن بروز صائب النحاس في عالم التجارة والصناعة بحسب الإرث العائلي، لم يجعله يتوانى منذ منتصف القرن الفائت، وخاصة في ظل علاقته الوطيدة بحافظ الأسد، في أن يجعل من نشاطه الاقتصادي منفذاً للعمل في السياحة ذات الطابع الديني الشيعي الذي أنشأه منذ منتصف السيتينات، وتبلور في التسعينيات وتطور بعد الحراك الشعبي في سوريا 2011، فنظم العديد من الرحلات الدينية إلى دمشق ومقاماتها الدينية الشيعية إلى جانب مقام الست زينب، وعلى الرغم من أن صائب النحاس قد نقل معظم أمواله إلى لبنان وحول نشاطه السياحي إلى شيعة لبنان، إلا أن مقربين من السلطة تتحدث عن استمرار أعماله في سوريا، وتعاظم حظوته لدى السلطة بسبب علاقته الوطيدة مع النظام الإيراني وأبرز قياديه، لهذا فإن قرار مصرف سوريا المركزي في الحجز على أمواله وأموال أبنائه تم التراجع عنه لصالح النحاس، رغم ثبوت تهربه الضريبي من قبل مؤسسات الدولة، وبذلك انتصر النحاس كأحد رجالات إيران على مخطط أسماء الأسد في مصادرة وملاحقة أموال رجال الأعمال البارزين.
وفي سياق مواز فإن عائلة نظام والتي تمتلك العديد من المحلات التجارية المتنوعة في دمشق القديمة، جعلت من عبد الله نظام ممثلاً لها، فبالإضافة إلى العمل التجاري يحظى “نظام” بحظوة دينية كبيرة في الأوساط الشيعية فهو يتقلد منصب رئيس المجلس الجعفري الأعلى في سوريا، والقائم على عدد من المجمعات العلمية الشيعية وشريكاً في المجمعات الدينية السنية كمعهد الشام، إلى جانب عمله الواسع في مجال العقارات، فقد اشترى عبد الله منزل نزار قباني لصالح قريبه الحاج رياض نظام، ويعمل على إنشاء العديد من الجمعيات والحسينيات الشيعية بهدف التشيع والسيطرة على المناطق التجارية الحساسة داخل سور دمشق وخارجه أيضاً، ومن منطلق كونه مرجعاً دينياً يتجاور فيه النفوذ السياسي القوي والثروة المالية التي لا تنتهي، استطاع نظام أن يحظى بمكانة اجتماعية عند شيعة دمشق فقد بنى لهم مجمع السيدة الفاطمة وجمعية علماء آل البيت، ووظف وداوى الكثيرين في جمعياته الخيرية، هذه الجمعيات التي تحاول اليوم استمالة بقية الطوائف عبر خدماتها التي تتقنع وراء مفاهيم الإنسانية والخير، وذلك لبناء قاعدة شعبية تعترف للشيعة في أحقية تواجدها ومشاركتها في الحكم في سوريا على حساب مفهوم الأغلبية الدينية.
الجمعيات الشيعية
منذ اندلاع الحرب في 2011 انتشرت العديد من الجمعيات الشيعية أشهرها جمعية الإحسان الخيرية، كما تم بناء وتجديد جوامع الطائفة في الحي، واستمرت مدرستي اليوسفية والمحسنية في رعاية أطفال الطائفة الشيعية علمياً وديناً، وأصبحت المنطقة مكاناً يستقطب الحجاج دينياً وسياحياً وذلك لقربه من مقام الست رقية، بالإضافة إلى المقاتلين الذين قاتلوا إلى جانب الجيش السوري، ويكاد لا يخلو منزل مسكون في الحي من صور الشباب الذين قضوا في معارك النظام ضد المعارضة، وأغلبهم ينضم إلى لواء حراس السيدة رقية، وتحت مسمى القوة الجعفرية، إذ شهد الحي إلى جانب حارة الجورة القريبة منه خلال الأعوام السابقة تشيعات كثيرة، أشهرها تشييع 75 مقاتل ماتوا في معارك في غوطة دمشق، كما يشهد الحي أعمالاً استفزازية كل فترة، منها خطاب الكراهية الشهير الذي هدد بحرق دمشق وغوطتها انتقاماً لموت إخوته من المجاهدين، وتستمر السيارات في الحي مساءً في وضع الأغاني بصوت عالٍ والتجول في الأحياء القديمة، التي تحمل نغم اللطميات والكلمات التحريضية التي تؤكد موالاتهم لأعمال الجيش وولاءهم المطلق لبشار الأسد وحزب الله، رغم صدور قرار يحظر مثل هذه الممارسات.
أما مشهد النمو الشيعي في دمشق القديمة، فيكاد ينهي الوجود اليهودي في هذا الحي الذي اتسم بالتعايش الديني والمذهبي، ولعل حجم اليهود المتواضع جدا في دمشق الذي يعتبر في الأساس ضئيلا إلا أنه اليوم قيد الاختفاء مقابل نمو الوجود الشيعي.