الكتاب الذي كشف “جمهورية الأسد” منذ البداية
متابعة: بتول الحكيم
قدم المفكر الفرنسي الراحل “ميشيل سورا” مقاربة لفهم السلطوية في سوريا وآثارها في أجهزة الدولة، وتحليل بنية النظام السوري خلال فترة حكم حافظ الأسد، ليخرج بكتاب “سوريا الدولة المتوحشة”، ومن خلال الخطوط العريضة التي اعتمدها في دراساته، تمكن من تفكيك البنية السلطويّة التي أنشأها الأسد في سوريا، عبر استثمار الآلة العسكرية التي تحتكر الدولة تملّكها واستخدامها وَفقَ نموذجِ (العصابة)، وتدمير إرادة المقاومة الداخلية وَفقَ سياسةِ الأرضِ المحروقة، إضافة إلى استخدام السلطة التناقضات الاجتماعية لخلق قوى متوازية، تستخدمُها في وجه من يتّهمُها بـأنها (أقلية تتحكم بالأكثرية)، إذ استطاع الأسد الحصول على السلطة باستخدامِ العصبية (العلوية) من خلالِ الدعوةِ إلى (الدولة الحديثة)، وذلك بتسليم (الأقلية)- مقاليدَ الدولة، مع العمل على التماسُكِ الداخلي في مقابلِ تفكيكِ “الأكثرية” تحت شعارِ العروبة والوطنية، ولذا كان على السلطة العمل على كسرِ مقاومة المدن، بتغييرِ بنيتها الطائفية، تارة بهدوءٍ كما حصل في حمص من خلال توطين أقلية علوية فيها، وتارة بعنفٍ كما حصل في مجزرة حماة.
في عام 1970 اكتملت سيطرة الجناح (الطائفي) في الجيش السوري، بنجاح انقلاب حافظ الأسد وزير الدفاع، لينتخب رئيسًا للجمهورية عام 1971، وفي سبيل إرساء حكمه الطائفي أعلن مرارا أن الأهمية لا تعود للطائفة أو الجماعة أو الدين، وأن الصلة الوحيدة والرابط الأهم بين الطوائف هو الوطن والعروبة، ليكون ذلك إعلانا صريحا عن سلطويته الطائفية.
ويستخدم “سورا” في تحليلاته مصطلحات أساسية يسقطها على الواقع ويبين أثرها في توحُّش الدولة والسلطة على المجتمع ومنها:
(الطائفة العلويَّة): استطاعت الطائفة العلوية تحقيق ثالوث السيطرة من خلال: (الطائفة، البعث، الجيش)، وكانت الأزمة التي عاشتها سوريا أحد أهم الأسباب التي دفعت الطائفة للتوحد في مواجهة الأكثرية، إضافة إلى وجود انشقاق عشائري داخل الطائفة حيث تتوازن العلاقات على مبدأ الحسب والنسب داخل القبيلة الواحدة، ثَمَّ جاء قرار إنشاء جمعية (علي المرتضى) لتوحيد الطائفة العلوية وجعلها بالتالي طائفة سياسية وليس دينية، وقد باتت إثر ذلك خطاً من خطوط الدفاع عن السلطة ومصير الأسد شخصيا.
* (الجيش):
يشير سورا إلى أن للجيش المكان المهم في توظيف العصبية المسيطرة، وقد سعت (الأقليات) منذ بداية حقبة الانقلابات إلى التغلغل في الجيش واحتكار العنف المفوَّض له لصالحها، لتتم تصفية المصالح الأخرى على يد الطائفة العلوية، من خلال تصفيتهم أو سجنهم أو تسريحهم أو نقلهم إلى خطوط خلفية، وبذلك تمت السيطرة للأسد على ولاء القيادات العليا في الجيش، الأمر الذي يتيح لنا فهم عدم إمكانية الانقلاب عليه، خاصة وأن المجموعات الكبرى التي تدين بالولاء للقائد من ذات اللون الطائفي، وبذلك أيضا يمكن تخمين الفراغ السياسي أو الصراع على السلطة في حال اغتيل الرئيس أو أي طارئ ينهي حياته .
* (الحزب): يختصر ميشيل سورا وصف حزب البعث بالقول: “لم يعد الحزب كمنظمة سوى واجهة مدنية للنظام الحاكم” ويستند “سورا” في هذا التحليل إلى ضعف فاعلية الحزب في وجه السلطة (المسيطرة)، إذ لم تكن الشخصيات القيادية السنية القليلة في الحزب كرئيس مجلس الوزراء محمود الأيوبي، ووزير الدفاع مصطفى طلاس والأمين العام المساعد للحزب عبد الله الأحمر سوى رهائن بيد الأقلية التي تمسك بتوجيه الحزب، وكانوا يتعرضون للسخرية عند التدخل أو المشاركة؛ إذ كان المؤتمر بشكل كامل تحت إشراف رفعت الأسد وإدارته، وعلى الرغم من أن لجنة الحزب المركزية تضم 70 عضواً من سائر الطوائف، فقد استأثرت الطائفة العلوية بنحو 30 مقعداً فيها، معظمهم من ضباط الفرق القوية في الجيش .
* (المدينة):
لقد كانت المدينة المعقل الذي يواجه تغول الوحشية العسكرية، بينما كان الجيش المعقل الذي تستعمره أقلية صاعدة تخشى مواجهة النسيج المدني، وقد استطاعت الأقلية العسكرية جعل المدينة عاجزة سياسيًّا عن مواجهة القوة التي استخدمت شتى الوسائل لتوطين قادمين جدد في كل المدن المهمة كـ-حمص ودمشق- وتسليمهم شبكات التوزيع والقوة التابعة للدولة كدوائر الخدمات والجمعيات والمدارس والوزارات ودفعهم لممارسة سلطتهم بشكل فاسد وأخرق، وذلك للإيحاء بأن النظام منفك تماماً عن مجتمع المدينة وأنه يمسك زمام الأمور على النحو الذي يرغبه، كأن يسمح لأبناء الأقليات دخول أهم التخصصات الجامعية على الرغم من ضعف مستوياتهم العلمية لكونهم من منتسبي المنظمات البعثية أو ممن أدوا دورات القفز المظلي.
وقد استطاعت السلطة تكريس نفوذها من خلال توظيف العصبية واللعب على التناقضات، حيث أسَّس الأسد في سلطته تحالفاً براغماتيًّا يدمج فيه التعدديات والتناقضات، وقام بتعبئة كل المنظمات والنقابات وبعض التيارات السياسية ووضعها تحت مظلة الجبهة الوطنية التقدمية، وجعل حزب البعث القائد في هذه المنظومة، إضافة إلى علاقاته مع الغرب والاتحاد السوفييتي وتمويله المستمر من دول الخليج وعلاقاته القوية مع إيران، وتوحُّده الكامل مع الطائفة التي ربط مصيرها بشخصه.
لقد أدَّت هذه التحالفات دور العصبية التي تتكافل فيما بينها بروابط الدم المشترك (الطائفة) أو الانتماء (العروبة)، وذلك للوصول إلى السلطة باستغلال الدعوة (الدولة الحديثة)، ومن ثم فقد كانت الأكثرية خاسرة لكونها أكثرية بلا طائفة أو عصبية سياسية وعسكرية.
كما استطاع النظام توظيف العصبية التي يمتلكها (الطائفة، الريف في مواجهة المدينة، المدني/ العسكري، تناقضات النسيج الاجتماعي) ليصنع وسيلة ملك أو سيطرة بدائية، ليستقر في وعي العصبية المرتبطة بالنظام مقولة (إما نحن أو هم) (إما حاكمون أو محكومون) (الثورة أو الرجعية) إلى آخر تلك الثنائيات التي جعلت من عصبية النظام غير مستعدة للقبول بأي تنازل يفقدها مكتسباتها .
ومن ثم عمد إلى العنف القمعي كوسيلة في استمرار سلطته، إذ تمثل الحالة السورية وضعًا سلطويًّا يمكن وصفه (إرهاب الدولة)؛ فعمليات النظام القمعية ذات دلالة واضحة للنظم الغربية، فإرهاب الدولة يبين الواقع الذاتي لبنية النظام الاجتماعي وموقف السلطة منه، إضافة إلى كونه علامة نفي الدولة لا علامة وجود الدولة، إذ لم يتح للشعب السوري بأكثريته المشاركة في بناء السلطة ومؤسسات الجيش والحكومة، فقد كان يعيش في الواقع تحت سيطرة الدولة بكتائبها ونقاباتها ومؤسساتها الثورية والأقلية، مما يدفع للبحث في علاقة الدولة بالمجتمع، وهنا يستند “سورا” إلى حنا آرندت في تحليلها لمكونات السلطة الطاغية، والتي يشكل الإرعاب مكونها الأساس وجوهرها المستمر، فإن الرعب كفيل بجعل العلاقة بين الشعب والدولة محكومةً بالحذر والخوف الدائمين، وتتصحر في هذه الأرضية الممارسة السياسية.
إن نماذج العنف التي أداها النظام تشير إلى تجاوزات خطيرة على المدى الداخلي والخارجي، وخاصة بأساليبها في إرهاب الخصوم، ففي الحالة السورية، لدينا الكتائب ذات الأسماء الرنانة (الفهود الحمر) (سرايا الدفاع) ذات اللون الطائفي الواحد، والتي لا تسأل عن جرائمها التي نفذتها لمصلحة (المعلم) -كإعدام المئات في حلب وجسر الشغور ومجازر تدمر وحماة-، وتخضع بالقول للقائد الأعلى فقط الذي تدين له بالولاء الأعمى والطاعة المطلقة، وكلما كانت القيادات الصغرى قريبة بالدم من القيادات العليا فإن سلطتها ستكون أكبر نظراً لقرابتها من صاحب السلطة لا لرتبتها الميدانية، وكذلك الإعلام الذي ينتج البروتوكول الخاص في معاداة الإمبريالية على النحو الذي يراه (المعلم) ويصدر توجيهات يومية للمانشيتات والأخبار التي يجب أن تذاع بعناية في الأيام القادمة، والتي تركز بمجملها على السيد الرئيس وأفعاله.
بقي أن نذكر أن ميلشيل سورا هو باحث وعالم اجتماع فرنسي، ألف كتاب (سوريا الدولة المتوحشة) واغتاله حزب الله اللبناني عام 1986، بعد اختطافه من قِبَل منظمة “الجهاد الإسلامي” والتي كانت إحدى واجهات حزب الله حديث التشكل حينها، وبقي “سورا” معتقلاً ومختفياً في ظروف مجهولة وغامضة ومن دون أي معلومات بشأنه، حتى أعلنت المنظمة ذاتها في آذار (مارس) 1986 عن تصفية ما وصفوه بـ «الباحث الجاسوس ميشيل سورا» ونشرت صورته بعد موته.