خطأ بشار الأسد في تغيير قواعد اللعبة
كل من يعرف إدارة الرئيس الراحل حافظ الأسد للأزمات الداخلية والإقليمية المحيطة بسوريا، يعرف كم هو الفرق كبير بين الأسد الأب والابن، وعلى الرغم من أن “حافظ” هو من أسس للعنف الأمني في سوريا، ونقل الدولة السورية إلى أعنف مستويات القمع إثر أحداث الثمانينات وتمرد الإخوان المسلمين وأحزاب سياسية أخرى، إلا أن “بشار” أصبح الآن أكثر رئيس سوري على مر التاريخ موغلاً بالدم.
اعتمد الأسد في كل مواجهاته الداخلية في سوريا ودول الجوار على “كارت” التفويض الإقليمي وأحيانا الدولي، فهو لم يواجه إطلاقا المجتمع الدولي أو العربي على الإطلاق منذ توليه السلطة العام 1970، باستثناء بعض الخطابات الرنانة لضرورة الاستهلاك الداخلي، في حرب 1973 اعتمد على الغطاء العربي والروسي وقوة الجيش المصري وتوافقاته المرحلية مع الرئيس الراحل أنور السادات، في دخوله إلى لبنان عام 1975 اعتمد على التفويض العربي الذي لم يكن يريد التورط في لبنان وتولى الأسد المهمة حتى بالتوافق مع إسرائيل، وبات الجيش السوري المندوب العربي في لبنان، وفي أحداث الثمانينات في مواجهة تمرد حركة الإخوان المسلمين، استند إلى الدعم الغربي الذي كان يتوجس من أية حركة إسلامية، نجح الأسد بشيطنتها وحصل حينها على الغطاء الأوربي بالتحديد والأمريكي وحتى غض النظر العربي، بذريعة أن الإخوان حركة متطرفة إرهابية تشكل خطر على الأنظمة العربية، وظل الأسد على هذا الخط، يدرك كيف يتنقل بين الخطوط الإقليمية والدولية، حتى في التعامل مع إيران، صنع توازنا من نوع آخر، فمن ناحية كان يعمق العلاقة الندية مع إيران، فيما يتقارب بنفس المستوى مع دول الخليج. كان يدرك أسرار ضرورة توازن سوريا على وجه الخصوص من بين كل الدول العربية بحكم موقعها الاستراتيجي وملامستها المباشرة مع إسرائيل، بل إن الأسد قتل من الفلسطينيين في لبنان ما يعادل ما قتله الإسرائيليون، ومع ذلك استطاع أن يحتوي حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية – القيادة العامة أحمد جبريل-.
هذه هي فلسفة الأسد التي شكلت محددات الدور السوري في المنطقة، إلى أن توفي “الأسد”، في حزيزان العام 2000، حينها دخلت سوريا في وضع سياسي وأمني وجيوسياسي جديد، بعيد عن المسار الذي رسمه الأسد على مدار ثلاثة عقود.
حافظ بشار الأسد على التقاليد والثقافة الأمنية في سوريا، وتولى دفة القيادة السياسية وإعادة تشكيل ذهنية سياسية جديدة غيرت طبيعة سوريا ودورها الإقليمي، وكان لا بد من أن تهتز سوريا بعد هذه المرحلة وتدخل في مرحلة الشغب السياسي على دول المنطقة، وتمتطي سياسة المحاور التي تجنبها الأسد في كل مراحله السياسية.
حافظ بشار الأسد على التقاليد والثقافة الأمنية في سوريا، وتولى دفة القيادة السياسية وإعادة تشكيل ذهنية سياسية جديدة غيرت طبيعة سوريا ودورها الإقليمي
ركب بشار الأسد موجة المد الإيراني، وتم اغتيال رفيق الحريري في شباط العام 2005، بعدها خرج الجيش السوري من لبنان بعد ثلاثين عاما من الحكم المطلق، فخسر الأسد نصف لبنان الطائفي والديني، وانقلب المسيحيون ضد الأسد، وشق وليد جنبلاط عصا الطاعة أيضا، بينما وقع أكبر طلاق تاريخي بين النظام السوري والطبقة السياسية السنية بعد اغتيال الحريري، وفي السعودية خسر الأسد أهم الخزائن العربية، وقطعت فرنسا أهم الدول الداعمة لسوريا تاريخيا علاقاتها مع النظام السوري، ناهيك عن الموقف التقليدي الأمريكي من النظام السوري.
هذا الانقلاب في السياسة السورية في خمس سنوات فقط منذ تسلم بشار الحكم إلى 2005، يشير إلى رغبة واضحة لدى الأسد الابن في تغيير الأوتار السياسية واللعب على وتر جديدة لا تشبه أوتار الأب، أو بمعنى آخر تغيير قواعد اللعبة، لذلك خرجت سوريا من المنظومة التقليدية المعروفة إلى مرحلة جديدة، عنوانها لعبة المحاور بالتوافق مع إيران.
كل من يعرف بشار الأسد، يعلم أنه من أشد المعجبين بالمرشد الإيراني علي خامنئي وبأمين عام حزب الله حسن نصرالله، وأنه مؤمن بالمحور الإيراني، وبينما كان الأسد الأب يحاول تثبيت قواعد التوازن في العلاقة مع طهران، جاء الابن ليكسر هذه القاعدة ويأخذ النفوذ الإيراني شكل الانزياح العميق على حساب وزن سوريا الجيوسياسي، رافق ذلك اغتراب سوريا عن الدول العربية وبالتحديد مصر والسعودية اللتان كانتا في العام 1991 مثلث المنطقة بعد حصار العراق.
كانت فاتورة الانضمام إلى المحور الإيراني باهظة الثمن، خسر الأسد المحيط العربي، ازدادت العزلة مع الدول الغربية، غيرت سوريا موقعها العميق على الجغرافية، دخلت إيران إلى كل الغرف السورية المغلقة الاقتصادية والعسكرية والسياسية حتى الاجتماعية، ازداد بحر الأعداء في لبنان والأردن الذي أول من حذر من مخطط الهلال الشيعي الإيراني، وبدل أن يوسع بشار الأسد دائرة العلاقات الإقليمية والدولية ارتمى في الحضن الإيراني بثمن بخس، وعلى الرغم من أن إيران كانت سندا للأسد في سنوات الحرب، إلا أن هذا رفع ثمن الفاتورة والغرق أكثر في بحار إيران المأزومة أصلا.
المفارقة في سوريا (بشار الأسد)، أن النظام كان يقاطع نظام صدام حسين البعثي على مدار عقود، بينما كان من أكثر الداعمين للحكومة العراقية الطائفية في عهد نوري المالكي، الذي ينتمي بشكل أو بآخر إلى تيار الإسلام السياسي، ولعل هذا يكفي في فهم حجم عمق التأثير الإيراني على أهم مراكز العواصم العربية.. دمشق.!